( جريدة ) قصة قصيرة / بقلم : مي عساف

( جريدة )

على تلك الأريكة التي كثيراً ماشهدت آهاته اتكأ محمّلاً بأوجاع يومٍ متعِب من العمل والعطاء....
عارف....المعلم المجتهد الذي يشهد بعطائه  
كلُّ أبناء قريته الصغيرة الغافية على كتف ذلك النهر الممتد امتداد الأفق....
تماماً كما يغفو هو...
على كتف حلم! 

في غرفة الجلوس.. وبعد أن أخذ حمّاماً سريعاً إثر عودته من المدرسة ...
جلس ينتظر وقد ألقى بهمومه على أريكته وأهداها كلَّ ما لديه من أوجاع....
وراح بهدوء يقلّب جريدته أمامه بينما زوجته
تتحدّى ظروف الفقر وتعدُّ طعام الغداء في مطبخها المتواضع.....
هناك ..حيث علّمتها الحياة كيف تمزجُ 
بين الممكن والمستحيل لتقدّم لعائلتها طعاماً أقلُّ ما يمكن أن يقال عنه...أنّهُ شهي !!
نعم فليست اللذة حكراً على تلك الوجبات المشبعة بترف الإمكانيات ..
بل كثيراً ما امتزجت ببساطة المتاح حين تعانقها أنفاس الحنان....

سنوات طويلة مرّت على عارف.. هذا المعلم 
الخلوق كراهب ..
الهادىء كنهر...
المعطاء كحقل...
والحنون .. 
ك أب..
اعتاد أن يعلّم تلاميذه
كيف يتسلّحون بالعلم في معركة الحياة.....
وكيف يمزجون بين الأمل والإرادة ..
كانوا يحبّونه كثيراً
ويقبلون على درسه بحماس إقبالهم على مباراة كرة القدم.....
وبين النجاح والإخفاق كثيراً ما رأى عارف
نفسه..
همزة الوصل؟!!

مابال هذه الجريدة تغصُّ بأخبار الموت والتشرد ..
ونعي الأوطان ؟؟
تساءل عارف ملقياً بجريدته
على الأرض..
باحثاً عن رائحة الطعام علّها تأخذ منه تلك الطاقة السلبية التي منحتهُ إيّاها..جريدة ؟!
إلّا أنَّ شيئاً ما شدَّ انتباهه من جديد وأعادهُ إليها..
صورةٌ اجترّت في مخيلته الكثير من الصور وأعادته للوراء سنواتٍ طويلة.... أيكون هو؟؟
كيف لي أن انفضَ غبارَ السنين عن هذا الوجه المحمّل بالحزن والأسى والغموض ؟
كيف لي أن أبحثَ في هاتين العينين العميقتين
عن حلمٍ طالما رأيته يلهو....
ويعبث .... ويسعى ....
ثم يغفو ويهدأ 
على حين خيبة ....؟
كثيرة كانت الأسئلة التي دارت في ذهن عارف 
وعبثاً حاول أن يجدَ الإجابة..
الشيء الوحيد
الذي بدا واثقاً منه .. 
أنَّ هذه الصورة المذيلة 
بخبر إلقاء القبض على إرهابيٍّ كبير ينتمي لإحدى التنظيمات الإرهابية  .. 
ما هي إلّا 
"صورة خالد" ..
ذلك التلميذ الشقي ....
خالد الفتى المشاكس والطموح والمتوقد والذي يحمل كمعظم أبناء جيله الكثير من التناقضات 
والتساؤلات .... 
والأحلام المخنوقة ..
والأمنيات المسروقة....
 نعم إنّهُ هو ..
وإن مرّت السنون ؟! 
وإن قست الملامح ..
وإن غلب غموضُ أقدارٍ معاكسة على براءةِ أحلامٍ مؤجلة.....
لا يمكن أن أخطىء به....
لا يمكن أن أنسى تلك النظرة....
عاد عارف إلى الوراء كثيراً 
تمدّهُ جيوبُ الذاكرة
بصور متلاحقة ....
حتى شعر أنَّ غرفة الجلوس
تحوّلت إلى مسرح يستحضر فيه كلَّ تلك المواقف
التي جمعته بخالد ....
ربّاه.... ايُّ حكمةٍ علوية تلك التي تجعلنا نرى الموت
في عيون أشخاص مازالوا 
على قيد الحياة..؟
أيُّ حكمةٍ علوية تجعلنا نشرب  من بحر الحياة المالح
فلا نزدادُ إلّا  ظمأ وحسرة ؟؟
فاضت عيناهُ بالدموع بينما يحاولُ الإجابة عن كلِّ تلك الأسئلة التي هاجمته كأسراب جرادٍ تريد أن تقضمَ ما تبقى
 من قمح الأمل في حقول إنسانيته  ..
لم يكن يعلم لماذا يحمّل نفسه ذنباً..ومسؤولية؟
كلُّ مايدريه أنّهُ فقد شهيته للطعام ..
تماماً كما فقد شهيته للحياة..
وأنّه لم يعد بحاجة لتلك الوجبة التي تعدّها زوجته على نارٍ هادئة .. بعد أن تناول وجبةَ إحباطٍ دسمة طُهيت على نارٍ لاذعة 
قدّمتها له .... (جريدة) 

( جريدة ) قصة قصيرة / بقلم : مي عساف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

« إيكولاليا » بـقلم : أحمد نجم الدين / العراق

« بيت أمّي » بـقلم : أحمد نجم الدين / العراق

« موت مؤمّل » بـقلم : أحمد نجم الدين / العراق